بقلم: حسام بوزكارن
في خضم تصاعد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، تجد طهران نفسها أمام معادلة معقدة: كيف تحافظ على هيبتها الإقليمية دون أن تدفع ثمنا باهظا قد يهدد بقاءها كنظام؟ إن استراتيجية “الصمود” التي تتبناها طهران ليست مجرد شعار سياسي، بل منظومة متكاملة من الحسابات الدقيقة التي تحاول التوفيق بين متطلبات الشرعية الداخلية والضرورات الجيوسياسية الخارجية.
تواجه إيران اليوم تحديا وجوديا حقيقيا، ليس فقط بسبب الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حساسة في عمق الأراضي الإيرانية، بل أيضا بسبب الضغوط الأمريكية المتزايدة في عهد ترامب الثاني، الذي يطالب بـ “الاستسلام غير المشروط” لطهران. في هذا السياق، يصبح فهم منطق الصمود الإيراني أمرا ضروريا لتحليل مسارات الصراع المحتملة وتداعياته الإقليمية والدولية.
الصمود كضرورة وجودية: عندما يصبح البقاء أولوية قصوى
لا يمكن فهم استراتيجية الصمود الإيراني دون إدراك أن النظام في طهران يرى في هذا الصراع تهديدا مباشرا لوجوده، وليس مجرد نزاع جيوسياسي عادي. فالمطالبة الأمريكية بالاستسلام غير المشروط، مقترنة بالضربات الإسرائيلية المتكررة، تضع النظام الإيراني في موقف لا يحتمل التراجع دون دفع تكلفة سياسية داخلية باهظة. من هذا المنطلق، يصبح الصمود بالنسبة لطهران ليس مجرد خيار سياسي، بل ضرورة وجودية. فقد استند النظام الإيراني في جانب كبير من شرعيته إلى فكرة “المقاومة ضد الاستكبار العالمي“، وأي تراجع مفاجئ أو استسلام قد يؤدي إلى انهيار هذه الشرعية من الداخل. هذا ما يفسر إصرار المرشد الأعلى علي خامنئي على رفض كل الدعوات للاستسلام، رغم الضغوط العسكرية والاقتصادية المتزايدة.
لكن هذا الموقف يضع إيران في معضلة حقيقية: كيف تحافظ على ماء الوجه دون أن تدخل في حرب شاملة قد تؤدي إلى دمار النظام نفسه؟ الجواب يكمن في استراتيجية “الصمود المحسوب“، التي تهدف إلى إطالة أمد الصراع وتوزيع التكلفة على المدى الطويل، بدلا من المواجهة الحاسمة التي قد تكون مدمرة.
إن هذه الاستراتيجية تقوم على فرضية أساسية: أن الوقت يعمل لصالح إيران، وأن الضغوط الدولية والداخلية على إسرائيل والولايات المتحدة ستؤدي في النهاية إلى تخفيف هذه الضغوط. لكن هذه الفرضية قد تكون خاطئة، خاصة في ظل التصميم الأمريكي الإسرائيلي الواضح على تحقيق أهداف استراتيجية محددة.
حدود القوة الإيرانية: بين الطموحات والإمكانيات الفعلية
رغم الخطابات المدوية والتهديدات المتبادلة، تواجه إيران قيودا حقيقية تحد من قدرتها على المقاومة الفعلية. هذه القيود ليست فقط عسكرية، بل اقتصادية واجتماعية وحتى جغرافية.
من الناحية العسكرية، كشفت الضربات الإسرائيلية خلال الأيام الماضية عن ثغرات حقيقية في الدفاعات الجوية الإيرانية. استطاعت إسرائيل أن تستهدف 40 موقعا في يوم واحد، بما في ذلك مراكز حساسة في عمق الأراضي الإيرانية، دون أن تتمكن الدفاعات الإيرانية من إيقافها بشكل فعال. هذا يطرح علامات استفهام حول قدرة إيران على حماية منشآتها الحيوية في حال تصاعد الصراع.
اقتصاديا، تعاني إيران من ضغوط شديدة بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ سنوات. وارتفاع أسعار النفط بنسبة 9% قد يوفر بعض الراحة المالية، لكنه لا يحل المشاكل الهيكلية في الاقتصاد الإيراني. فالبنية التحتية المتهالكة، والفساد المستشري، ونقص الاستثمارات الأجنبية، كلها عوامل تحد من قدرة إيران على تحمل تكاليف حرب طويلة المدى.
جغرافيا، تقع إيران في منطقة محاطة بالتهديدات من جهات متعددة. فمن الشرق، هناك التوتر مع باكستان وأفغانستان، ومن الغرب العراق الذي لا يزال غير مستقر، ومن الجنوب الخليج الذي تهيمن عليه قوى معادية لإيران، ومن الشمال روسيا التي تحافظ على علاقات معقدة مع طهران. هذا الوضع الجغرافي يجعل إيران عرضة للضغوط من جهات متعددة، مما يحد من مرونتها الاستراتيجية. كما أن الاضطرابات الداخلية التي شهدتها إيران في السنوات الأخيرة تكشف عن تآكل في الشرعية الشعبية للنظام. الاحتجاجات النسائية، والتذمر الاقتصادي، والضغوط على الأقليات العرقية والدينية، كلها مؤشرات على أن النظام يواجه تحديات داخلية حقيقية قد تحد من قدرته على التركيز على التهديدات الخارجية.
المعادلة الصعبة: التوازن بين الكرامة والواقعية
تجد إيران نفسها اليوم أمام معادلة بالغة التعقيد: كيف تحافظ على “كرامتها” كقوة إقليمية دون أن تدفع ثمنا يفوق قدرتها على التحمل؟ هذه المعادلة تتطلب نوعا من الحكمة السياسية التي تجمع بين الحزم والمرونة. إن الاستراتيجية الإيرانية الحالية تبدو وكأنها تحاول كسب الوقت، عبر إطالة أمد الصراع وتجنب المواجهة الحاسمة. فالردود الإيرانية على الضربات الإسرائيلية كانت محسوبة بعناية: قوية بما يكفي لإرسال رسالة، لكن ليس بالدرجة التي قد تؤدي إلى تصعيد لا يمكن السيطرة عليه. هذا النهج يعكس فهما عميقا لحدود القوة الإيرانية، لكنه في الوقت نفسه يضع النظام في موقف دفاعي مستمر. فالمبادرة اليوم في يد الطرف الآخر، وإيران تجد نفسها في موقف “رد الفعل” أكثر من كونها في موقف “الفعل“. المشكلة في هذا النهج أنه قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في موقف إيران الإقليمي. فالحلفاء والأصدقاء يحتاجون إلى رؤية قوة حقيقية وليس مجرد خطابات. والأعداء يفسرون التأني أحيانا على أنه ضعف، مما قد يشجعهم على مزيد من التصعيد.
في النهاية، قد تجد إيران نفسها مضطرة للاختيار بين خيارات صعبة: إما المضي قدما في استراتيجية الصمود حتى لو أدت إلى تآكل موقعها الإقليمي، أو البحث عن مخرج دبلوماسي يحفظ ماء الوجه دون الاستسلام المذل. وفي كلا الحالتين، ستكون التكلفة باهظة، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي. إن ما يحدث اليوم في المنطقة ليس مجرد صراع بين دولتين، بل إعادة تشكيل للنظام الإقليمي بأكمله. واستراتيجية الصمود الإيرانية، رغم منطقيتها من منظور البقاء السياسي، قد لا تكون كافية لمواجهة هذا التحدي الوجودي. المطلوب اليوم من طهران ليس فقط الصمود، بل إعادة اختراع نفسها بطريقة تمكنها من التأقلم مع الواقع الجديد دون التضحية بمصالحها الأساسية.
أصدقاء العالم العربي 2025. حسام بوزكارن
تنويه: جميع حقوق نشر هذه المقالة محفوظة لـ“أصدقاء العالم العربي“، ويُمنَع إعادة نشرها أو الاقتباس منها، جزئياً أو كلياً، دون أخذ إذن مُباشِر ومُسبَق من الجمعية، ويستثنى من ذلك الاقتباسات المحدودة المراعية لأصول البحث العلمي، لهدف تعليمي أو بحثي مُحدَّد، مع ضرورة الإشارة إلى الجمعية بوصفه الناشر الأصلي
اترك تعليقاً