بقلم د.علي محمد علي الطنازفتي
كلية الاقتصاد والتجارة بالجامعة الاسمرية الاسلامية- زليتن – ليبيا
طرح سؤال من أنا؟ ومن نحن ؟ ومن أنتم ؟ ربما يُساء إليه أو يشوه أو يطمس معالمه إذا اقترن أو ألصق بــــ (أيديولوجيا) سياسية – ولكن هذه الأسئلة برئيه، ويجب الرجوع لمنشئها الفكري، وذكر سياقها التاريخي وإسنادها، لضبط المعنى فيها ،حتى لا يتم تزييف الوعي وللاستدلال علي ذلك كان للفيلسوف سقراط نداء حركي هو “أعرف نفسك ” وهو سؤال من أنا؟ أما اشكيب أرسلان فتساءل عن النحن بعنوان ( لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ) متسائلا عن ذلك بمن نحن؟ في حين سؤال من أنتم؟ لا يكون إلا من معلوم لمعلوم لا للتنكير في أغلب الأحيان.
والذي يعني العنوان في هذا المقام هو معرفة من نحن الليبيون؟ في سياق ضبط الألفاظ والكلمات والأقوال كـــ”مباني” يستقيم العمل والفعل بها؛ وفي هذا المقام نستشهد بقول لابراهام لينكولن الذي يحدد استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في هذه العبارات منذ نشأتها، فيقول : ” إذا استطعنا أن نعرف مقدما من نحن ؟ وإلي أين نتجه ؟ نستطيع أن نختار بصورة أفضل ما يجب أن نفعله ، وكيف نفعله ؟ إذا سؤال من نحن؟ سؤال هُوية وثقافة وحضارة، ومرجعية وأيديولوجية ورؤية كونية كلية للوجود…. وتفصيل هذا يصعب الحديث عليه في هذا السياق ولكن لنفهم من نحن؟ يجب أن نعرف ونفهم إلي أين نتجه؟
وللفهم نتساءل في هذا المقام عن مباني الألفاظ التي تطرح في المجال العام الليبي؛ وهل تتفق الألفاظ كمباني في عالم الأفكار مع معانيها التي تشير إليها في عالم الأحداث ؟فمن الضروري والواجب أن نفهم من نحن كهُوية وسيرة ومنهاج وشرعة، ونعرف مسيرة الاتجاه كقبلة؛ ثم نعي عملية اقتران القول بالفعل والمبنى بالمعنى كمبدأ وقيمة وأصالة، فهل أقوالنا لها علاقة بأعمالنا وأفعالنا ؟لأن بالفهم والمعرفة يكتمل الوعي الذي يحتضن الفكر والوجدان” الإحساس والشعور” ومن بعدها نتحدث عن ما يجب أن نفعل؛ وكيف نفعل ؟
ففي المجال العام أي الواقع الذي نعيش فيه ؛ تتقاذف الكلمات وترمى المعاني ويعلن المتحدث موت الكلمة وتفكيكها وضياع معناها وحتى الاستهزاء بمقام ذكرها.
فمثلا كلمة الله أكبر نقولها في توقيت كل صلاة، ونسمعها في الأذان، وفي قول الرسول rعن الصلاة : “أرحنا بها يا بلال”، ونستذكرها لما جَنَّ اللَّيْلُ على سيدنا إبراهيم في قوله تعالي:” فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ“
فلماذا شوه معناها، وبهت مغزاها، واستهزاء بمقام ذكرها، عندما تختزل وتذكر في الغنائم “التمشيط” وفي محاربة المسلم للمسلم، وفي عملية استبدالها من نشيد ديني ” الله أكبر” إلي نشيد وطني قومي ” إننا يا ليبيا لن نخذلك “.
كذلك تم تشويه مفهوم الشهيد، والوطني …وأعطت الصفة “كصك غفران”، كما استبيحت الذاكرة الحضارية الفكرية للدولة “التاريخ”، وانتهكت أعراض “الجغرافيا”، واستنزف “الاقتصاد”، وخطف منهج “التعليم”، وزيف الوعي” الديني” بالتدين، واشطاط الناس من السياسة لإسناد الأمور إلي غير أهلها، فتشوه الإدراك العام وتحول الاختلاف السياسي إلى اقتتال أهلي ، ونكرر من نحن ؟ وإلي أين نتجه؟
كما أن هناك قاعدة ذهبية معرفية تذكر في علم الاجتماع والسياسة وهي :” أن التغير في المفاهيم هو تغير في السلوك ” في حين أنه في المجال العام الذي نعيشه، المفاهيم فيه تتغير والسلوك القيمي واحد.
وفي هذا السياق نساءل ما الفرق بين مفاهيم ” الغنيمة والفلاقه والتمشيط “[1] تغير في المبنى تبات في معاني السلوك وأن كان هناك تفاوت ففي الدرجة لا في النوع، وما الفرق بين “التصعيد[2] والانتخاب” في التصويت وبين “أن تستنزف ثروات البلاد ومفهوم العمالة”، وبين “من يغتصب مشروعية سلطة اختيار ورضا الشعب لمن وصل للمناصب القيادية في الدولة بالتمديد التلقائي لنفسه؛ ومفهوم شرعية الحاكم بموافقة أجنبية” وبين “محاربة الأولياء والعلماء أو أن تتحول الفتوى إلي نص” ،وبين مفاهيم الاتفاق والمصالحة التي صارت مفاهيم سياحية وإسناد مشروع صياغة الدستور إلي غير مختصين…
فضلا على أن الفكر السياسي الإسلامي لم يضبط مفهوم فكرة الخروج، ولا زال الفهم والمعرفة والوعي في تصور النخبة وعامة الناس تتعلق بحق الخروج على الراعي “الحاكم” من قبل الشعب فقط، ولم يكتمل التحليل الاجتهادي بأنه ما تأثير خروج الشعب أو بعض أفراده على الراعي “الحاكم” إذا كان الفعل السياسي يتعلق بأولوية ترجيح أمن إقليم الدولة وأمن مواطنيها على التبعية والوصاية والحماية الدولية؟ فضلا ما تأثير خروج الراعي والرعية على وحدة الوطن ودخول طرف ثالث؟ فهل هذا يمثل القيم الإسلامية القائمة على العدالة، وضبط المفاهيم والمعاني؛ وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والحذر من التولي والولاء لعدو الوطن والبراء من أفكاره وأعوانه ، أو أنها ميكيافللية تنطلق من مقولة الغاية تبرر الوسيلة، أو أنها سفسطائية الفهم تؤمن بالصح والخطاء في آن واحد، أو أنها براغماتية “نفعية” تؤمن بالنتائج لا بالمقدمات، أو أن هذا الانحراف يتبع فهم المدرسة التفكيكية في ما بعد الحداثة التي تتحدث عن إعادة إنتاج المعنى ،وموت المؤلف ، ولا يوجد تفسير عالمي للسلوك يمكن التصديق به في عصر العقلانية القصدية والتشكيك في نظرية المعرفة القائمة على التمييز بين الذات والموضوع ، وأخذ مفاهيم :الموت ، والنهاية والانتظار بجدية مطلقة، أو أن هذه مجتمعة ألبست في قيم التصور والإدراك والوعي للمجتمع الليبي. فهل من صحوة لإعادة الحرمة للكلمة؟ حتى يعود الارتباط بين ما نعني وما نقول، وبين ما نقول وما نفكر، وبين ما نفكر ونفعل .
من هنا نتساءل إلي أين نتجه ؟ إذا كان هذا حال الوطن والمواطن ويبدو أن الحل يستوجب تشخيص الحالة المفاهيمية من الناحية السياسية والدينية علي اعتبار أن تحقيق معادلة ارتباط القول بالعمل أي المباني بالمعاني حق وواجب ديني وسياسي يحقق معادلة اقتران الأصل كــــ ” هٌوية” بالعصر كـــ “واقع” يصون القيم . لأن الخلل مرده يرجع ترجيحًا إلي تشتت وتبعثر واضطراب في الفهم والمعرفة والوعي بالمنهاج والشرعة دينيًا ، وإلي غياب الإرادة والتخصص وحسن التدبر والتصرف في طريقة بناء الدولة سياسيًا؛ أنتج اضطراب في المباني” المفاهيم والمصطلحات” التي تداعت على معاني السلوك والقيم كتداعي الآكلة على قصعتها .
[1] – مصطلحات لها منشأ تاريخي وتسلسل زمني يلي بعضه البعض ، وهي تختلف في مبناها اللفظي ، في حين أن معناها الأقرب أنه معنى واحد فهي تحتوي في مضمونها معنى: النهب والاختلاس ……
[2] – اختار الليبيون في عهد معمر القذافي لاختيار نواب الشعب في المجالس المحلية والبلدية ومؤتمر الشعب العام ” البرلمان” لفظ تصعيد بدل لفظ انتخاب، وحينما وظف لفظ انتخاب في احداث ” الربيع العربي” لم يكن هناك اهتمام بمغزى الدلالة اللفظية وما يحوي مضمونها من البحث عن الكفاءات والقدرات للمناصب القيادية حيث مازال التحشيد القبلي هو السائد، وما تزال قيمة الكفاءة والتخصص… في حالة اغتراب.
اترك تعليقاً