د. علي محمد علي الطنازفتي
الجامعة الاسمرية الاسلامية ليبيا
معاناة الكورد الفيليين ما تزال مستمرة منذ تأسيس الدولة العراقية وإلي اليوم ، تندرج هذه المعاناة الإنسانية في مصادرة حق المواطنة وحق الجنسية ، بهما تم السيطرة على ممتلكاتهم وتفكيك أسرهم، وتهجيرهم وابعادهم القسري عن أماكن سكناهم .
وليفهم القارئ هذه المعاناة نسوق له ممهدات التمييز والاقصاء والإبعاد والتهجير ، شرعنة هذه المعاناة ، أولا بقانون الجنسية العراقية رقم (12) الصادر في سنة 1924م ، الذي قَسَّمَ العراقيين الى “تبعيتين” أ- تبعية عثمانية ومنح حامليها امتياز الجنسية العراقية ب- تبعية ايرانية واعتبروا أجانب وظلوا معدومي الجنسية والهُوية ،هذه التبعية منشأها تقسيم جغرافي صنعته اتفاقية لوزان 1923م والذي تم التسوية فيها لاحقا في 5/6/1929م باتفاق بين المملكة المتحدة البريطانية وتركيا والعراق ، بتسوية مسألة الموصل لصالح المملكة المتحدة ، وفصلت كُردستان العراق عن كُردستان تركيا، وأصبحت جزءاً من العراق الحديث، وبقية الحدود السياسية للأراضي المختلف عليها مع الجانب الإيراني(أي المناطق الكُوردية الجنوبية للفيليين)[1]
وبما أن الكورد الفيليين “اللور” مذهبهم شيعي وليس سني ، زادت معانتهم الإنسانية في الحرب العراقية الإيرانية إذ صدر ضدهم مرسوم سياسي عراقي عن مجلس قيادة الثورة في 7/4/ 1980م،تحت رقم (666) يدعو لتجريد 250-300 ألف فرد من الكورد الفيليين العراقيين رسميا من الجنسية العراقية بحجة دعمهم لإيران ،وعدم ولائهم للوطن العراقي والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا “للبعث” واعتبروا طابور خامس “تابعين” ، وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وترحيلهم الي ايران، وحجز وتغييب أكثر من 22 ألف شاب من الذين كانوا يؤدون الخدمة العسكرية.[2] ونشأ القرار السابق بقرار قبله مموه ومراوغ حيث مهد له القرار رقم (10) المؤرخ في 3/2/1980م الصادر من مجلس قيادة الثورة ، الذي يشير إلى أنه سيمنح شهادة الجنسية العراقية للكورد الفيليين ولكن هذا القرار كان مفخخ إذ تم رصد كماشة للمتقدمين وشرعت أجهزة الأمن باعتقالهم ومصادرة ممتلكاتهم ومن ثمة ترحليهم بموجب القرار (666) .[3] وليكتمل التطهير العرقي صدر قرار من بعده داعم ومساند له وهو القرار رقم 474 بتاريخ 15/4/1981م، والذي يأمر جبرًا ويقضي “بأن يُجبر الزوج على تطليق زوجته؛ لأنها من أصول غير عربية ، والزوجة تنفصل عن زوجها لأنه من أصول غير عربية، بل كان الموظف في دوائر الدولة يطرد من وظيفته إذا لم يبادر إلى تطليق زوجته ،وكذلك الموظفات” وفي نص المادة “1” من القرار يشير إلى أنه : “يصرف للزوج العراقي المتزوج من امرأة من التبعية الإيرانية مبلغ قدره أربعة آلاف دينار ،إذا كان عسكريا، وألفان وخمسمائة دينار إذا كان مدنيا في حالة طلاق زوجته أو في حالة تسفيرها إلى خارج القطر”، وفي المادة “2” يشترط في منح المبلغ ثبوت حالة الطلاق أو التسفير من الجهات الرسمية المختصة وإجراء عقد زوج جديد من عراقية[4]
هذه القوانين صادرت الجنسية والمواطنة، فأنعدمت هُويتهم ،تم شرعنة اقصائهم وتمييزهم وتلاها تهجيرهم وإبعادهم… وصولا لمستوى التغييب والإبادة ، وقد كانت مراحل التهجير على النحو الآتي: أول مراحل التهجير والإبعاد بحقّ الكُورد الفيليين، كانت في عهد حكومة طه ياسين الهاشمي سنة 1936م وتبعتها حملة أُخرى في عهد رشيد علي الكيلاني، إذ تمّ تهجير عشرات الآلاف من الكُورد الفيليين إلى إيران تحت ذريعة عدم حيازتهم على وثائق تثبت تبعيتهم للعثمانيين الأتراك[5]. وزادت قساوت التهجير وشدته في عام 1964 بعدما تشكلت الجمهورية العراقية الثانية بسنة تحت إمرة مجلس وطني مصغر بقيادة عبد السلام عارف،هذه القيادة كانت لها خلافات مع الدور الاجتماعي الذي يقوم به قادة العشائر الكوردية، وكانت لها صدامات عسكرية معهم [6]جراء على أثرها تهجير وكانوا ضحايا هذهِ العمليات أغلبهم من سكان مناطق الكورد الفيليّة الحدودية مثل: مندلي وخانقين بدرة وجصان والكوت وعلي الغربي والشرقي والعمارة وغيرها، وتشير الوثائق عام 1965 إلى أن الكورد الفيليين يشكلون عماد الاقتصاد في الحياة الاقتصادية العراقية.[7] ولوقف القتال وضبط عملية التهجير تواصلت الحكومة العراقية مع الزعيم الكوردي الملا مصطفي البارزاني على خطة بموجبها تمنح المنطقة الكوردية الفيلية والكورد سلطات مهمة لتحقيق نوع من الحكم الذاتي[8]
تم تجدد التهجير سنة 1972م في عهد الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر ما بين عامي 1970-1975م ، وفيه تم طرد نحو (300000) مواطن كوردي فيلي إلى إيران؛ وحجزت أموالهم المنقولة وغير المنقولة وحجز نحو (10000) شاب كوردي فيلي كرهائن[9] ،وبدأت عملية الاعدامات الممنهجة في هذه المرحلة في مناطق: بغداد وخانقين… كنقطة انطلاق ،ثم امتدت الي مناطق عراقية أخرى – وللبدء في هذا العمل صدر بالخصوص المرسوم السياسي الذي تمت الاشارة إليه وهو القرار رقم (666) الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 7/4/ 1980م. [10] ليزيد من مصادرة الحقوق والتهجير وتفريقهم عن أزواجهم ،وخاتمة هذه المظلومية للكورد الفيليين كانت بالتغييب والتهجير بين سنتي 1987-1988م حوالي 22.000 مغيب كانت اعمارهم مابين(18-30) لم تسلم رفاتهم إلي الآن[11].
وتسعى الحكومات العراقية المتعاقبة على مضض وبتأني لعلاج هذه المعاناة ، إذ تم إلغاء المرسوم رقم (666) في المادة 17 من قانون الجنسية العراقية لعام 2006م ، وهو يمهد لاستعادة الكورد الفيليين لجنسيتهم وحقوق المواطنة ،ويطلب منهم بأن يكونوا مسجلين في تعداد عام 1957م، وإن كان التهجير كما ذكر منشأه بداية حكومة طه ياسين الهاشمي 1936م .
ومع هذه الاستجابة إلا أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ذكرت في تاريخ 14/11/2013م، إن هناك نحو 120 ألف شخص غالبيتهم من الكورد الفيليين والبدون لا يملكون الجنسية في العراق بحسب تقديراتها.[12] وهناك أصوات كوردية – تشير إلي أن عملية الحصر تحتاج إلى إرادة سياسية فاعلة متعاونة من قبل المركز والإقليم مع المفوضية وغيرها من الجهات الرسمية ، لأنه يوجد العديد ممن يعيشون في المخيمات ومنتشرين في بلدان أخرى- يحتاجون للبحث عنهم والتحرى عن أعدادهم ، واستبيان أرائهم .
عليه ، يطالب الكورد الفيليين بكشف الحقيقة وجبر الضرر المادي والمعنوي ، وبقوانين تضبط العلاقات الانتخابية مع شركائهم في الوطن ، وسياسات عامة دائمة ومستمرة تمتد مع جميع المكونات تحترم حقوقهم وهُويتهم الثقافية ، حتى لا تتحول رمزية منح الحقوق إلى محنة ويجب ان يعبر المركز والإقليم تجاههم بطريقة محسوسة تأخذ الشكل الملموس .
والعقلانية السياسية في هذا المقام تقتضي ضرورة تكييف الوسائل مع القيم والحقوق ، فكل “وسيلة” تنطبق مع موضوع الحقوق التشريعية والسياسية والمواطنة فهي ذات قيمة عقلانية بالنسبة للكورد الفيليين ومتفقة مع قيم الهُوية ، وهذه العقلانية لا تطرح قضايا خاصة أو ذات امتياز ، بل هي حقوق في المساواة لا في التسوية ، وفي العدل لا في الانصاف ، تدعو للخروج من أوهام الكهف وعقلانية التحيز ، وتدعو للمشاركة والتعاون والتطاوع، لتحقيق المصالحة المجتمعية
[1] – يتواجد الكورد الفيليين في مناطق محافظة ميسان “العمارة”، ومناطق جلولاء وخانقين ومنذلي “محافظة ديالي”، وزباطية وبدرة وجصان “محافظة الكوت”… وغيرها ، اضافة إلي بغداد العاصمة التي ينتشرون في العديد من مناطقها ، وكانوا أصحاب تجارة ولهم رمزية ومكانة في أغلب مناطقها فقد كانوا يشكلون عماد الاقتصاد . انظر: العلوي ،زكي جعفر الفيلي (2009)، تاريخ الكرد الفيلييون وآفاق المستقبل-دراسة في الجذور التاريخية والجغرافية ومراحل النضال ،ط1 ، ص511،512 .
[2] – حدد المرسوم رقم (666) الصادر بتاريخ 7/5/1980م مايلي : أ- يفقد كل عراقي من أصل اجنبي جنسيته العراقية إذا كان غير مخلص للوطن والشعب وللأهداف الوطنية والاجتماعية العليا للثورة 2- على وزير الداخلية ان يأمر بإبعاد كل من فقد جنسيته العراقية على النحو المبين في الفقرة الأولى من هذا المرسوم ، انظر هيئة الامم المتحدة ، المفوضية العليا للشؤون اللاجئين(سبتمبر 2002)، حالات انعدام الجنسية ومخاطر غيابها في العراق: مجتمعات الأكراد الفيليين والبدون ، ص9
[3] – الشيرازي ،السيد محمد الحسيني،آية الله العظمى (2003)،التهجير جناية العصر ،بيروت : مؤسسة المجتبى ، ط1، ص61.
[4] – الشيرازي ،السيد محمد الحسيني ، آية الله العظمى (2003)، مرجع سابق ، ص13.
[5] – المرجع السابق ، ص70 ،ص486
[6] – قمحة، أحمد ناجي (1996 )، أكراد العراق الواقع والمستقبل، السياسة الدولية ،العدد 126، ص134.
[7] – العلوي ،زكي جعفر الفيلي (2009)، مرجع سابق ،ص486.
[8] – أبو زيد، محمد الهادي ( 2007 )، الشيعة والسنة والأكراد في العالم – الجيزة : هلا للنشر والتوزيع، ص172.
[9] – الشيرازي ،السيد محمد الحسيني ، مرجع سابق، ص54،60.
[10] -انظر هيئة الامم المتحدة ، مرجع سابق ، ص9
[11] – لتفاصيل أكثر راجع ، العلوي ،زكي جعفر الفيلي (2009)،مرجع سابق، ص491-493.
[12] – نقلاعن موقع الحزب الديمقراطي الكوردستاني ، الأمم المتحدة : يوجد نحو 120 ألف شخص لا يملكون الجنسية العراقية ، SUN, 17 FEB 2013 11:14 | KDP.info
https://www.kdp.info/a/d.aspx?l=14&a=45252
اترك تعليقاً