المقدمة
في 14 أبريل 2024 قدم المبعوث الأممي الخاص في ليبيا عبد الله باتيلي استقالته وحفز اتخاذ قراره بالقول إن “الإصرار الأناني الذي يبديه القادة الحاليون للإبقاء على الوضع القائم من خلال تكتيكات المماطلة والمناورات على حساب الشعب الليبي “وهو العامل الرئيسي الذي يحد من عملية تحقيق السلام الدائم في البلاد. منذ الأحداث التي أدت إلى سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 وحتى اليوم، تعيش ليبيا حالة من الاضطرابات السياسية المستمرة وما نتج عنها من عنف مسلح حيث تمارسها المجموعات المتعددة التي ظهرت نتيجة فقدان الدولة احتكارها للسلطة. وهناك حكومتان في البلاد اليوم، ورغم محاولات مختلف اللاعبين الإقليميين ودور الوساطة لبعثة الأمم المتحدة في ليبية (بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا)، لم يتوصل بعد إلى حل دائم لاستعادة السلام. تدور خلال الفترة ما بين 2014-2020 الحرب الأهلية الليبية الثانية والتي تشارك فيها الحكومة الليبية المعترف بها دوليا في العاصمة طرابلس والميليشيات التابعة لها، في مواجهة مجلس النواب الذي مركز قوته مدينة طبرق في شرق البلاد ويدعمه ما يسمى بـ“الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر .
مجتمع منقسم
إن عملية انهيار الدولة في ليبيا طويلة الأمد وترجع إلى عدد من العوامل المعقدة. من ناحية، فإن القوى الإقليمية المختلفة قادرة على ضمان مصالح الجهات المفضلة لديها في الحياة السياسية الليبية. ومن ناحية أخرى، تعود جذور عدم الاستقرار السياسي إلى الانقسامات الداخلية التقليدية للمجتمع الليبي على أسس إقليمية وعرقية وقبلية. معظم سكان البلاد هم العرب والبربر المستعربين والطوارق الذين يشكلون أكثر من 140 قبيلة. في سياق تأريخي، كان العامل القبلي–الأسلافي والفسيفساء المعقدة للعلاقات بين القبائل هما أساس السلطة والتجارة في البلاد، وكذلك عقبة أمام بناء مؤسسات الدولة المستدامة على المستوى الوطني. ليبيا بلد ذو موقع جغرافي مهم للغاية وهي تقع على مفترق الطرق بين المغرب والمشرق، بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء، وكذلك بين أوروبا والعالم العربي ومنطقة الساحل.
المناطق التاريخية
إقليميا، تنقسم ليبيا إلى ثلاث مناطق تاريخية كبيرة – طرابلس وبرقة وفزان. في ولاية طرابلس الغربية تقع العاصمة طرابلس، وهو أهم ميناء في المنطقة منذ العصور القديمة. برقة بشرق ليبيا هي أغنى محافظة من حيث احتياطيات الهيدروكربون -85% من احتياطيات النفط و70% من احتياطيات الغاز الطبيعي على التوالي، وتقع هنا خمس من محطات النفط الستة وأربع من مصافي النفط الخمس. بدورها، تعد ولاية فزان جنوب غرب البلاد طريقا تجاريا مهما، ونقطة عبور بين طرابلس وبرقة، وكذلك بين دول المغرب العربي ودول الساحل.
القبلية العربية
علامة الأسلاف القبلية حاسمة في غالبية العالم العربي خاصة في ليبيا. القبلية العربية هي عنصر هيكلي أساسي في المجتمع، حيث تنتظم حوله جميع العلاقات السياسية والاقتصادية. وتتجاوز الفسيفساء المعقدة للعلاقات بين القبائل حدود الدولة، فتربط المجتمعات الليبية بتونس ومصر، وفي حالة الطوارق، بمالي والنيجر. وقام القذافي الراحل بدمج عدد من القبائل إلى حد كبير في الحكومة المركزية للبلاد، في حين جرد الكثير منهم من امتيازاتهم السياسية التقليدية. وفي الماضي كانت تُعتبر عملية التحضر مساهمة في تراجع النفوذ القبلي في الحياة السياسية، لكن هذا الاتجاه انعكس في العقود الأخيرة. في الواقع، يفترض بعض الباحثين أن نتيجة لغزوات وفتوحات المدن من قبل المجتمعات القبلية التي ترفض الاندماج في الحياة الحضري وفرض نموذجها الخاص للنظام الاجتماعي قد يُلاحظ العملية العكسية أي مكافحة التحضر.
منذ بدايتها، دارت ثورة الضباط الليبيين حول طرابلس باعتبارها مركز السلطة. قبيلة ورفلة تنحدر من طرابلس فإنها القبيلة الأكثر نفوذاً وعدداً في ليبيا، حيث ينتمي إليها ما يقرب من مليون شخص من أصل 7 ملايين نسمة في البلاد. وكانت قبيلة ورفلة أهم حليف للقذافي في الفترة ما بين 1977-1993 وهي شكلت مع قبيلة القائد الثوري (قذافة) وقبيلة المقارحة التحالف القبلي قذافة–ورفلة–مقارحة، الذي ارتكز عليه النظام الثوري سلطته. بينما كانت قبيلة الورفلة معروفة بأعدادها الكبيرة، فإن أفراد قبيلة القذافة التي تعتبر مدينة سرت معقلها التقليدي، وتاريخيا لم يكن لها تأثير كبير وهي إحدى القبائل الأصغر حجمًا. فإن شهرتهم اللاحقة تنبع بالكامل من أن هي القبيلة التي ينحدر منها الزعيم الثوري الليبي. تتمتع قبيلة المقارحة التي ترجع أصولها إلى فزان بأعمق وأطول علاقة بالقذافة. وبفضل روابطهم التاريخية مع القذافي، شغل أعضاء المقارحة مناصب مهمة في هياكل السلطة في الجماهيرية الليبية. لقد أصبحوا أثرياء جدًا بفضل تأثيرهم المكتسب. وضمن أعضاء القبيلة رئيس الوزراء السابق، عبد السلام يعتبر اليد اليمنى للقذافي وعبد الله العلي السنوسي، مدير المخابرات العسكرية بالجماهيرية.
ومما يخص المعارضة المستقبلية للقذافي فهي وُلدت من انهيار التحالف بين هذه القبائل. يعود سبب التدهور التدريجي لعلاقات التحالف إلى الانقسام الذي نشأ داخل الورفلة بين شيوخ القبائل والضباط الشباب الذين يشكلون قلب القوات المسلحة الليبية. نظم الضباط الشباب انقلابًا فاشلًا ضد القذافي في عام 1993 وتلا ذلك قمع شديد ضدهم وعائلاتهم وأقاربهم. وقد هز هذا بشكل كبير العلاقات القبلية الراسخة وبث بذور العداء والكراهية، والتي شهد العالم ذروتها في الأحداث المحيطة بوفاة القذافي في عام 2011.
اللاعبون السياسيون ودور العامل الدولي
منذ تنصيبه في سبتمبر 2022 حتى استقالته في أبريل 2024، قام الدبلوماسي السنغالي عبد الله باتيلي بعديد من المحاولات لجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات من خلال ما يسمى بدبلوماسية الوساطة (دبلوماسية المكوك) ولكم لم يتوج مشروعه بالنجاح. ولم تتأثر العملية السياسية في ليبيا بشكل كبير باستقالته. فهي لا تزال في طريق مسدود وتعتمد بشكل كامل على نخبة سياسية مفككة ليس لها أي فائدة من تغيير الوضع الراهن. وفي إطار هذه النخبة، واجه الباتيلي الاستحالة للتوصل إلى اتفاق مستدام بين ما يسمى بـ “الخمسة الكبار“ –الجنرال خليفة حفتر، ورئيس حكومة طرابلس عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد منفي، ورئيس البرلمان عقيلة صالح عيسى، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تاكالة. وهناك لاعب مهم آخر ظل لفترة طويلة بعيدا عن أنظار الرأي العام الدولي وهو سيف الإسلام القذافي وهو الابن الثاني للديكتاتور الليبي السابق. وتم إطلاق سراح سيف الإسلام في يونيو 2017 بعد ست سنوات من الأسر لدى الميليشيات في مدينة الزنتان. وفي عهد والده، قام بدور نشط في السياسة الخارجية لليبيا وتم ترشيحه لخليفته النهائي، على الرغم من أنه ينفي الفكرة بنفسه. وتسود في أوساط المجتمع الليبي فكرة أنه يسعى للعودة ليرأس معسكر عناصر النظام السابق الذي هو غير موحد إطلاقا.
أما فيما يتعلق بإمكانية الحد ومنع حالات الأزمات في مجالات الهجرة والطاقة والأمن، فإن ليبيا والجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي بأكمله هي منطقة ذات أهمية حيوية لبروكسل. ومع ذلك، لا توجد استراتيجية مطورة ومحددة بوضوح لتكون بمثابة خريطة لمراحل وعمليات وأساليب محددة بدقة للحد من التأثير الخارجي في البلاد. وسيتابع الاتحاد من خلال التعاون النشط مع المبادرات الدبلوماسية مثل بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عملية برلين بشأن ليبيا ومنصة الحوار السياسي الليبي (LPDF) لضمان عملية انتخابية شفافة ونزيهة لإنتاج حكومة شرعية على مستوى البلاد للخروج من الأزمة. وتتمثل الخطوة المناسبة في هذا الاتجاه إلزام الدول الأعضاء بموقف مؤسسي مشترك قادر على الحد من مصالحها الخاصة، والتي يسعى البعض إلى تحقيقها في ليبيا من خلال التفاعل مع اللاعبين المحليين المعنيين. من جانبها، أثبتت النخبة السياسية الليبية على مر السنين أنها غير مهتمة بتغيير الوضع الراهن لصالح المواطنين الليبيين.
العوامل الدولية التي تؤثر على الميدان تتخذ مواقف مغايرة تجاه اللاعبين السياسيين الليبيين الداخليين. على سبيل المثال، تحافظ روسيا على تعاون وثيق مع حفتر، الذي تدعمه فرنسا إلى حد ما. ووقعت حكومة الدبيبة في طرابلس في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 اتفاقا مع أنقرة لمنح الحكومتين الحق في استخدام منطقة اقتصادية خالصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يشكل انتهاكا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وربما ترى مصر من جانبها أن إجراء الانتخابات يشكل خطراً على مصالحها في المنطقة.
ما هو مستقبل ليبيا؟
الحل المحتمل في المستقبل هو إجراء عملية انتخابية شفافة تحت رعاية الأمم المتحدة والتي من شأنها أن تنجح في التحايل على نقص التعاون من جانب النخبة السياسية الليبية وتمنح مواطنيين ليبيين حكومة واحدة معترف بها دوليا. ويجب أن تكون قادرة على استعادة السلام الداخلي المكسور في الدولة وأن تكون مستدامة بما يكفي للحفاظ عليها في المستقبل. وعلى الرغم من الحاجة الواضحة لإجراء انتخابات وتشكيل حكومة وحدة، هناك شكوك حول هذا الاحتمال.
ومن بين الأسباب للإخفاقات السابقة في هذا المجال هو الواقعة أن المرحلة الثانية من الصراع المدني في ليبيا اندلعت بعد هذه الانتخابات تحديداً. البديل لحل الصراع هو إعادة تنظيم ليبيا كجمهورية فيدرالية بثلاث وحدات فيدرالية – طرابلس وبرقة وفزان، وتتمتع كل منها بدرجة معينة من الحكم الذاتي وتمارس نفوذها في اتخاذ القرارات المهمة للبلاد. ومثل هذا الاحتمال يمكن استعارته من النموذج الألماني أو السويسري، ويمكن فرضه على أساس الفروق السياسية والاقتصادية والثقافية بين المناطق التاريخية في ليبيا. وفي حين أنه من غير المرجح أن يسير حل الأزمة في هذا الاتجاه، فإن مقترحات مثل هذا تستهدف إلى تغطية الشبكة المعقدة من المصالح الخارجية والعلاقات القبلية والخلافات الدينية والعلمانية – وجميع العناصر التي تشكل اللغز تسمى ليبيا.
بقلم: ألكساندر ديميتروف (طالب من جامعة صوفيا في تخصص “العلاقات الدولية“)
إن المقال جزء من تقرير الخبير الذي قدم في 22.05.2024 في وزارة الخارجية البلغارية أثناء طاولة مستديرة بعنوان “العمليات الحالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“.
أصدقاء العالم العربي 2024.
تنويه: جميع حقوق نشر هذه المقالة محفوظة لـ“أصدقاء العالم العربي“، ويُمنَع إعادة نشرها أو الاقتباس منها، جزئياً أو كلياً، دون أخذ إذن مُباشِر ومُسبَق من الجمعية، ويستثنى من ذلك الاقتباسات المحدودة المراعية لأصول البحث العلمي، لهدف تعليمي أو بحثي مُحدَّد، مع ضرورة الإشارة إلى الجمعية بوصفه الناشر الأصلي
اترك تعليقاً